شهدت الدراسات الإسلامية في الغرب تحولًا نوعياً في العقود الثلاثة الأخيرة التي شهدت انحسار الاستشراق الفيللوجي الكلاسيكي. وقد انعكس هذا التحول في اتجاهين متمايزين، سلك أحدهما طريق الدراسات الإنسانية والاجتماعية بالنظر للظاهرة الإسلامية كنص مقروء أو سياق عملي خارج مصادرات المرجعية الأصلية، وذهب أحدهما إلى المسلك التفكيكي الراديكالي في محاولة جلية لهدم كل الثوابت المتداولة حول الإسلام نشأة وأصولاً وتراثاً. ولقد عرف هذا الاتجاه الثاني بمدرسة "المراجعين الجدد"، التي تمحورت في بدايتها حول أعمال الأميركي "جون وانسبرو"، الذي أصدر عام 1978 كتابه حول "الدراسات القرآنية"، الذي بلور فيه الفرضيات الأولية للمدرسة حول أصول القرآن الكريم وظروف جمعه. وفي الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، طور اثنين من تلاميذ "وانسبرو" هذه الفرضيات في عدة أعمال منشورة هما الباحثة الدنماركية "بترشيا كرون" والمؤرخ الإنجليزي "مايكل كوك"، اللذان اشتركا في إصدار كتاب مشترك بعنوان "الهاجرية" خصصاه لتفسير نشأة الإسلام، وقد أصبح الكتاب الوثيقة المرجعية للمدرسة كلها. يضاف إلى "كرون" و"كوك" باحث آخر يحمل اسم "كرستوف لكسنبورج" (ولعله اسم مستعار) أصدر قبل سنوات كتاباً استفزازياً مثيراً ، استند فيه على أعمال "وانسبرو" وتلاميذه للتدليل حسب زعمه على الأصول السريانية- الآرامية للقرآن الكريم. ومع أن المدرسة "الأركونية" لا تسير في هذا المنزلق، إلا أنها لم تنفك تدعو إلى مراجعات نقدية تسير في الاتجاه نفسه (أي التشكيك في المصادر التراثية الرسمية وتطبيق مناهج النقد، التي طبقت على النصوص اليهودية والمسيحية)، بل إن "أركون" نوه بأبحاث المراجعين الجدد داعياً إلى الاستفادة منها في الدراسات الإسلامية. ومع أن بعض وجوه الاستشراق الكلاسيكي (كجوزف فان اس) وقفت ضد هذا الاتجاه الجديد، كما أن كتابات عربية قليلة تناولت بالقراءة والنقد أعمال المراجعين الجدد، إلا أن الحقل الأكاديمي، كان يحتاج إلى حصيلة تقويمية نقدية لأبحاث هذه المدرسة التي صارت توظف على نطاق واسع في تغذية "الإسلاموفبيا" الجديدة. ولا شك أن كتاب الباحث الفرنسي "ميشال أورسل" الصادر هذه الأيام بعنوان "نشأة الإسلام: بحث تاريخي في الأصول"، يسد هذه الثغرة رغم اختصاره ونأيه عن التعقيدات الأكاديمية. يتناول "أورسل" المصادرات والفرضيات الأساسية التي تقوم عليها مدرسة المراجعين الجدد، ملخصاً إياها في موضوعات خمس هي:"الرسول في التاريخ" و"ألغاز القرآن"، و"هل تم اخترع مدينة مكة؟" و"تحت غطاء الكعبة" و"قبة الصخرة". يجمل "أورسل" في هذه المحاور النتائج التي توصل إليها المراجعون الجدد وهي: نفي وجود نبي الإسلام باعتبار غياب نصوص تاريخية موضوعية تؤيد الروايات الإسلامية، التي يطعنون في صدقيتها، التشكيك في الرواية السائدة حول جمع القرآن، والقول إنه نص من أصول سريانية - آرامية جمع في العصر الأموي لأسباب سياسية - إيديولوجية، التشكيك في وجود مدينة مقدسة باسم مكة المكرمة واعتبارها أسطورة لا يوجد دليل تاريخي حولها، والتشكيك في وجود كعبة في مكة تنتظم حولها طقوس الحج وتوجه نحوها القبلة واعتبار الموضوع كله اختراعاً متأخراً، واعتبار المسجد الأقصى أسطورة أموية لاستبدال مكة بقبلة جديدة هي بيت المقدس. ولدحض هذه الفرضيات، يبين "أورسل" أن أبحاث المراجعين الجدد تستند علي خلفيات منهجية ثلاث هي: تكرير نفس الخطاب المناوئ للإسلام الذي لم يتغير في جوهره منذ "يوحنا الدمشقي" في العصر الوسيط إلى الاستشراق الحديث مع تبدل الواجهة المصطلحية، ونفي الصدقية والموضوعية عن المصادر الإسلامية الكلاسيكية مع الرجوع إليها لدعم فرضيات بحثية هامشية في التقليد الإسلامي نفسه، إهمال أو سوء استخدم الوثائق العلمية الموضوعية التي تنسف الأطروحات التي يقدمها المراجعون الجدد. في هذا السياق، يبين "أورسل" من خلال الشهادات التاريخية الخارجية والموضوعية صدق الروايات الإسلامية في خطوطها العريضة، سواء تعلق الأمر بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو جمع القرآن الكريم أو تاريخ مكة المكرمة والكعبة والمسجد الأقصى. فبالاستناد إلى عدد من النصوص اليونانية والآرامية والسريانية المعاصرة تقريباً للبعثة النبوية، يبين المؤلف الوجود التاريخي لنبي الإسلام ، بل يقيم الدليل على أن اليهود مالوا إلى اعتباره الرسول الموعود، وإن صورة النبي عيسى التي قدمها القرآن الكريم تماثل تصور الطائفة الإبيونية المسيحية التي ترفض ألوهية المسيح وعقيدة التثليث، مما يمنع تصديق القول بأن الإسلام "هرطقة مسيحية". وبالرجوع لمصادر مسيحية سريانية ولمخطوطات صنعاء المكتشفة بداية من ستينيات القرن الماضي، يبين "أورسل" صدق الرواية الإسلامية حول المصحف العثماني وزيف فرضية الجمع المتأخر في العصر الأموي. وفي حين يمكن التدليل تاريخياً بيقين تام على وجود نبي الإسلام وعلى المدونة القرآنية الأصلية، يشير الباحث إلى أن أول مصدر متوافر حول المسيح يرجع لقرابة قرن بعد "موته"، كما أن "الأناجيل" الأولى تعود لما بين 50 و110 سنوات بعد "رحيله". يصدق نفس البرهان على وجود مكة المكرمة المذكورة في مصادر قديمة معاصرة لنشأة الإسلام من بينها شهادات للمؤرخ اليوناني "ديدور" واليوناني "بلين"، كم هي مذكورة بوضوح في جغرافية "بطليموس". كما يصدق البرهان ذاته على الكعبة، مما هو جلي في شهادة للمؤرخ اليوناني الكبير "هيرودوت" و"كليمنت لاسكندري"، ويصدق على تاريخ قبة الصخرة والمسجد الأقصى.. لا شك أن كتاب "أورسل" يستحق القراءة لعمقه العلمي وشجاعته الفكرية الصادرة عن دفاع مستميت عن حق الإسلام في الانتماء الطبيعي للتقليد الإبراهيمي الذي هو خاتمته، رغم أن المؤلف لا يدخل في صلب المواقف الإيمانية والانتماءات العقدية واللاهوتية. وقد سبق للمؤلف نفسه أن أصدر من قبل كتاباً مهماً بعنوان "كرامة الإسلام" فكك فيه بقوة خطاب "الإسلاموفوبيا" الجديدة المتمحور حول بعض الدوائر المسيحية التي اعتبر أنها تنزع إلى هدم الإسلام بآليات هدم المسيحية نفسها التي ترفضها الكنيسة، ولا يمكن علمياً تطبيقها على السياق الإسلامي.